الاثنين، 3 نوفمبر 2008

قصة فى القلب وحده ...


قصة (( فى القلب وحده ..))

آآه .. ما هذا الضوء الشديد .. امممممم .. ياله من صباح جديد .. استيقظت ببطء وتكاسل أجمع بقايا فراشي المخملي وأبعدته عن وجهي في هدوء .. وما هي إلا دقائق وكنت استقر أمام التلفاز في ركود وكسل .. وتضغط يدي أزرار الريموت بدون وعى دون أن انظر إلى التلفاز حتى .. وكأنها مبرمجه للبحث عن ذلك المسلسل الرتيب .. وماذا أفعل برأيكم في تلك الأجازه الطويله ؟؟
وقطع صوت ذلك الملل صوت قطتي شهد والتي لم تكف عن المواء منذ استيقاظي .. فخرجت للشرفة وأخرجتها بهدوء من المكان الذي أحتجزها بعض الوقت فيه لأنال راحتي من النوم ..
وبينما تداعب أصابعي فراء القطة .. لمحت عيني ذلك الجار .. أ/شوكت .. رجل في أواخر العشرينات .. هادئ .. رزين .. نادراً ما تسمع صوتاً يصدر من شقته .. يعيش وحيداً .. لا يهتم كثيراً بأن يبدو اجتماعياً .. ولا يهوى الكلام .. تستقر العوينات التي تزيد من هيئته وقاراً فوق أنفه المنحوت .. ويقرأ جريدته الصباحية كالمعتاد .. ولربما هو كتاب من الكتب التي اعتاد على قراءتها .. فنادراً ما أراه شارداً أو يخرج صوت تلفاز من شقته .. فهي رفاهيات لا يعتاد عليها أ/شوكت .. حكت عنه أمي كثيراً .. وعن والداه الطيبين .. وعن سمعته الجيدة واستقامته منذ صغره .. فهو ومنذ نعومة أظافره في طريق يحسده غيره عليه من التفوق .. ودائماً ما تلحظ اتقاد الذهن والذكاء في عيونه السمراء .. يحبه الكثير من الجيران .. لأنه كما تقول أمي (( راجل في حاله .. يا ريتك تبقى زيه يا أبو فصاده)) .. حكت أيضاً عن تفوقه في عمله .. فهو أحد عباقرة مصر .. ساهم في اختراعات في مجال الأدوية .. وساهم في علاج الكثيرين من فقراء الحي ..
وفجأة قفزت شهد من بين يداي إلى شرفة أ/شوكت .. فإذا به يبتسم وينهض عن كرسيه .. فانبهرت من رشاقته .. فقد أمسك شهد في لحظه .. حتى شهد نفسها لم تتوقع تلك السرعة في الإستجابه .. لربما أثرت استجابتي البطيئة لحركات شهد على استجابتها بالمثل فلم تعد سريعة مثل القطط .. ولربما أ/شوكت سريع فعلاً !!
فأخذت من يديه القطة .. وهممت بالابتعاد عنه حتى لا أزعجه أكثر من ذلك .. فإذا به ينطق قائلاً (( استني .. أنت اسمك إيه يا عسل ؟؟)) .. فاستدرت له قائلاً (( اسمي عبد الله )) .. فقال (( طاب .. خد قطك وتبقى ما تحبسهوش تانى في البلكونه .. عشان بيفضل ينونو طول الليل)) .. فنظرت إلى شهد في تهكم وانطلقت كلمات تهكم بصوت منخفض لم يسمعها أ/ شوكت (( قط !! وما تحبسهوش فى البلكونه !! بلكونتنا واحنا احرار !! وبعدين ينونو إيه .. دا أنت وأنت بتمسكه كنت باحسبك هتاكله!!)) .. وارتسمت فوق شفتاي ابتسامه واسعه .. فتابع قائلاً (( وتبقى تحميه يا عبد الله)) .. انقلب وجهي وكدت افقد أعصابي .. وتهكمت مره أخرى (( لأاااا .. كله إلا كده .. شهد متربية أحسن تربية ونضيفه وزي الفل .. وبعدين مش كفاية ريحة شقتك اللي عامله زي معمل الكيمياء بتاع مستر فتحى في المدرسة)) .. وتابع أ/شوكت قائلاً (( تعرف أنا اسمي إيه يا بيدو )) .. امتعضت شفتاي وهززت رأسي نفياً واستكملت تهكمي (( بيدو مين يا عم أنت ؟؟)) .. فقال (( قوللى عمو شوكت ... بس توعدني إن قطك مش يبات هنا تانى .. أنا مشغول اليومين دول ومش عاوز حاجه تشوشر على تركيزي )) .. لم تعد أعصابي تحتمل ذلك الاستفزاز المتصل .. وخرجت الكلمات من فمي بدون قصد (( ومشغول فإيه ؟؟)) .. صعق أ/شوكت من لهجتي .. فحاولت تخفيف الموقف بضحكه طفولية بلهاء .. فإذا به يقول (( تعرف يا واد يا بيدو !!.. فيه ناس بيتمنوا انهم ينسوا حاجات .. أو مواقف حصلتلهم فى الحياة )) احترست في تلك المرة .. وخفضت صوتي تماما (( آه طبعاً .. زي ما أنا نفسي أنسى اللي عملته شهد فيا دلوقتى وأنها مخليانى اقف أكلمك بقالي ساعة وهتضيع عليا المسلسل )) فاستكمل أ/شوكت قائلاً (( فيه ناس مش أقويا كفاية عشان يستحملوا الدنيا .. تخيل لو عملنالهم حاجه تنسيهم اللي حصللهم )) .. فابتسمت بشده .. قائلاً بصوت عالي (( الله عليك يا عمو شوكت )) .. فضحك أ/شوكت ضحكة عالية فلم يتوقع تلك الكلمات منى .. وقال (( بس في مقابل كده هينسوا حياتهم كلها يا حدق )) .. تركني أ/شوكت ودخل إلى شقته والبسمة لم تفارق شفتاه .. وعندما ابتعد بالقدر الكافي عنى .. سابقت ساقاي الريح .. إلى التلفاز ...
لم يتكرر مثل ذلك اليوم .. فلم تنم شهد فى الشرفة مرة أخرى .. (( عشان خاطر البيه اللي هينسينا اسامينا إن شاء الله باختراعاته)) ..
و توالت أخبار وتغيرات في حياة أ/شوكت تابعتها من خلال والدتي .. فها قد تقدم أ/شوكت لإبنة جارتنا (( جيهان)) .. فتاة في بدايات العشرينات .. أنهت دراستها بكلية الصيدلة .. محبوبة .. جميلة .. هادئة .. ويبدو أن أ/شوكت أحبها منذ صغره .. ولكنه كما تقول أمي (( ميه من تحت تبن )) ..
مرت أشهر .. تغير فيها أ/شوكت تماما .. اهتم بمظهره أكثر وأكثر .. لمعت بسمته في سماء الحي .. اختفت روائح شقته تماماً .. وحل محلها العطور .. وتخيلوا !! لقد حل محل الصبار الذي ملأ الشرفة .. بورود بيضاء وشجيرات صغيرة ونباتات زينه !!
وبينما أسهر أمام التلفاز .. يسهر أ/شوكت في شرفته وحيداً بدون كتاب .. ينظر إلى القمر حالماً بتلك الفتاة التي ملأت عليه حياته .. كثيراً ما كنت اتصنت عليه لأستمع لتلك الأشعار التى برع فى كتابتها .. فكم كان إنساناً مرهف الحس .. فلم أنسى تلك القصيدة الرائعة له والتى أسماها بــ (( فى القلب وليس العقل )) .. وحتى أن شهد اعتادت القفز إلى شقته لجمالها ولألوانها .. وسبحان مغير الأحوال .. كان أ/شوكت يكثر من تدليلها ويعطيها السمك وبقايا الطعام .. (( فاكرين .. بعد ما كان مش طايق ريحتها في البلكونه ))
وتوالت الأشهر .. و أ/ شوكت في شدة السعادة إلى أن شاءت الأقدار بحدوث تلك الكارثة .. ففي أحد الأيام .. استيقظت والجو يملأه الصياح والنواح .. وإذا بي أرى والدتي ترتدى السواد والدمع في عيونها .. وتفتح باب الشقة لتنزل إلى الحي .. فهرولت إلى الشرفة لأرى ما يحدث .. فإذا بجيهان ترقد وسط الشارع والدماء تسيل منها .. وبجوارها أ/شوكت ووالدها في مشهد لم ولن تنساه ذاكرتي .. يبدو أن سيارة هوجاء صدمتها وفرت ..
ومرت الأيام الكئيبة على حينا .. فقد كانت جيهان محبوبة من الجميع .. ولم تفارق بسمتها خيالي عندما أوصلتني في إحدى المرات إلى مدرستي عند مرض والدتي .. كم كانت رقيقة .. وكم ملأت على أ/شوكت حياته .. ولكنى وعن جد أصغر من تلك المشاعر المحزنة لأشعر بالأسى حيال أحد .. وما هي إلا مشاعر شفقة تنتابني من وقت لآخر حياله .. فقد تغير حاله بشده .. فبعد ان ملأ الدنيا سعادة وبهجة .. انطفأت شمعته تماماً ..
عكف أ/شوكت في شقته لمدة شهر ولم يقف خلالها حتى في شرفته .. خشي الناس أن يكون قد أصابه مكروه .. فقرروا كسر باب شقته .. ودخلوا إليها للبحث عنه وإنقاذه .. ولكن ....!!
كانت مفاجأة بحق .. فلا وجود للأستاذ شوكت .. بالرغم من وجود كل ملابسه وحاجياته كاملة!!
ومرت أعوام .. وأعوام .. وكبرت .. ودخلت الكلية التي طالما حلمت بها .. كلية الهندسة .. وتفوقت في دراستي .. إلى أن أنهيت فترة الدراسة الجامعية .. وتخرجت .. وعملت في إحدى المكاتب الهندسية بالقاهرة .. وسطر الزمان على ملامحي علاماته.. ولم يعد برأسي مكان للذكريات .. فلم يخطر ببالي أ/ شوكت ولا جيهان إلا نادراً .. فقد وهبني الله زوجة جميلة .. رقيقة .. تحبني .. وترعاني على أكمل وجه .. وأنجبت لي أولى بناتي .. شهد .. ملأت على الحياة بهجة وبسمه .. وكانت أنس حياتي كما كانت قطتي شهد قديماً .. وبعدها رزقني الله بمحمد .. نعم .. إن المال والبنون زينة الحياة ..
فإذا بوالدتي تتصل بي في إحدى الأيام وتأمرني بأن أمر عليها في المساء لتعزية عم محمد جارنا .. ((أبو جيهان)) في زوجته .. ((أم جيهان)) .. وما نطقت سوى بـــــ((لا إله إلا الله ..الله يرحمها كانت ست طيبة وصابرة .. وإن شاء الله مثواها الجنة)) .. وفى الميعاد .. ذهبت لوالدتي بالسيارة لأوصلها لمقابر عائلة عم محمد .. وعندما وصلنا .. دخلت والدتي مع النساء لتعزيهم .. أما أنا فقد ذهبت صوب عم محمد والدموع تترقرق من عيني .. فالموقف وحده يكفى لإبكائي دون تذكر المتوفى أصلاً .. فما بالك إذا كان المتوفى جار عزيز بمثابة الوالدة ..
تقبل عم محمد العزاء وأجلسني .. وبعد انتهاء العزاء تماماً .. قمت من مكاني .. وسألت عم محمد على انفراد (( بعد إذنك يا حاج .. هوا فين قبر بنتك ؟؟ )) .. قال في حزن وصوت متحشرج يكاد يخرج من فرط الدموع .. (( اسأل الشيخ حجازي .. هتلاقيه جوا الأوضه المضلمة دى .. هوا اللي قاعد هنا يا ابني .. أنا مش شايف حاجه بالليل كده )) ..
استأذنت من عم محمد .. وذهبت إلى الشيخ حجازي في خطوات ثابتة ومشية يملؤها الوقار .. وطرقت باب غرفته المظلمة .. فإذا بشخص هرم يفتح الباب .. ولكن !! .. لم تكن ملامحه بالغريبة عنى .. فسألته عن الشيخ حجازي .. فدخل وخرج الشيخ حجازي .. والذي دلني بدوره على قبر جيهان .. وعندما ذهبت إليه .. ألقيت نظرة متمعنة .. وتذكرت أ/شوكت .. وفجأة ..!! .. تذكرت .. فإن ذلك الشخص عند الشيخ حجازي .. نعم .. هو الأستاذ شوكت .. لا يمكن أن أنسى ملامحه مهما طال الزمن ..
وعدت مسرعاً للشيخ حجازي .. فخرج لي .. فسألته عمن بداخل الغرفة .. وعن اسمه .. فقال (( دا يا ابني واحد غلبان لجيته من خمستاشر سنه هنا وسط المجابر .. وجاعد جدام جبر بنت عم محمد الله يرحمها .. لا فاكر اسمه ولا عنوانه ولا أيتها حاجه .. ولا معاه لا بطاجة ولا غيره .. وكان معاه جزازه فاضية في إيده .. غلبت فيه .. روحت بيه للداكتور .. وبرضه ما عرفش الجزازة دى بتاعة إيه .. ولا حد عارف مين دا ولا سكته منين ؟؟ .. صعب عليا أخدته عندي .. وأهو عايش معايا كافي خيره شره .. بس الغريبة إنه من يومها وهوا بينام جنب جبر بنت عم محمد .. ولحد دلوجتى ما جالليش ليه))
نزلت دمعه أحرقت عينى .. يا له من زمان غادر .. فتفسير ما حدث كله عندى وحدى .. فالأستاذ شوكت بعد ما حدث له .. قرر أن يشرب ذلك الإكسير الذى أعده لمسح الذاكره .. والذى لم يكلم أحد عنه سواي .. لربما تعذب لدرجه جعلته يقرر أن يضحى بعقله وعبقريته وحياته بأكملها لينسى جيهان .. ومع ذلك .. وبعد نسيانه كل شيء .. فهي الشيء الوحيد الذي لم ينساه ..!!
صدقت أشعارك يا أ/شوكت.. فالحب في القلب .. وليس في العقل .. نعم .. فى القلب وحده..